قصدت إحدى القرى النائية البعيدة، كي ارتاح من مشاكل الدنيا وهمومها التي بدأت تزعجني.عندما كنت أتجول في القرية استمتع بالمناظر الخلابة التي تشد النظر إليها، سمعت صوتا من بعيد، فتعقبته، وكلما تقدمت يزداد الصوت وضوحا أكثر فأكثر ، إلى أن ظهر أمامي كوخ صغير ، كان الصوت آتيا منه ، تقدمت وفتحت بابه، وإذ بي اسمع ذات الصوت يقول لي :من أنت..؟ لماذا أتيت إلى هنا ؟!.
فوجئت وتجمدت في مكاني دون حراك.
وإذ به يطرح علي نفس السؤال ، فأجبته قائلة : أنا إنسانة هربت من هموم الدنيا ومشاكلها : ولا تدري إلى أين ستذهب بعد الآن، ليس لأنه لا ادري إلى أين اذهب ، بل لأنه لا يوجد مكان اذهب إليه.
تعجب الكوخ من إجابتي وبقي صامتا.
سألته: هل لك أن تخبرني لماذا كنت تصدر ذلك الصوت الحزين ؟ّ.
أجابني قائلا:
آه من الأيام آه، تفرّق أغلى الأحباب وتتركنا تائهين في هذا العالم نبحث عن شيء لا نعلم ما هو، ونبقى أحياء على اثر ذكريات عشناها.
قلت: يبدو انك تحمل بداخلك قصصا وحوادث مؤلمة من الماضي وتتمنى أن تعود.
الكوخ قائلا:
فعلا يا صديقي، أنت صادق بما تقوله، سأروي لك قصتي لعلني ارتاح ولو قليلا من همي وألمي.
لقد كنت كوخا جميلا جدا في الماضي، وتسكنني عائلة ليس لها مثيل، فربة المنزل تحترمني كثيرا ودوما تحافظ على أن أبقى مرتبا ونظيفا، فتمسح أرضيتي وتلمع نوافذي، وتحضر الزهور كل صباح لتضعها في المزهرية، فاشعر بالراحة التامة والحيوية.
أما رب المنزل فقد كان رجلا لطيفا، بل.. بل في غاية اللطف والرقة.فكان يستيقظ باكرا كل صباح لتنظيف الأوساخ والأعشاب من حولي ، وينكش الأرض ويزرعها كي يبقى المنظر حول الكوخ جميلا يجذب النظر، وعندما ينتهي من ذلك يعود إلي وبيده الصحيفة الصباحية التي لطالما اعتاد على قراءتها، فيجلس لقراءتها ويحتسي بعض القهوة اللذيذة، التي لا يوجد احد في العالم يستطيع أن يعدها مثل زوجته.
وفي كل عام أثناء عيد الميلاد، يحضر رب المنزل شجرة العيد، فيزينها بالأضواء الملونة، والنجمة تعلو قمتها بشعاعها الذهبي ، ولا ينسى طبعا تزييني بالاشاريط الملونة المتنوعة، وبكل ما هو متوفر من زينه. والجميل في ذلك أن عمله كان متقنًا، وأسلوبه رائع في تنسيق الاشاريط. وكل عمله ينبع من أعماق قلبه الحنون المُحِب.
أما الحدث الذي ما زلت أتذكره ولا يمكن أن أنساه، وكأنه حدث بالأمس، بأنه كل عام تقام مسابقة في القرية، عن أجمل وأحسن كوخ، والكوخ الفائز في المسابقة، يُعلن على انه أفضل كوخ على مدار العام.
حينها اشترى رب المنزل العديد العديد من الزينة ، والأدوات الناقصة، وقام بتجديدٍ كاملٍ لكل قطعة في المنزل، ولم يهمل شيئًا حتى لو كان صغيرًا. كما أنه زرع الحديقة المحيطة بي بكل أنواع الزهور والشجيرات، لدرجة أنه عمل عجب العجابى لكي احصل على المركز الأول، وأحصل على اللقب. وفعلا بعد عناءٍ وتعبٍ شديدين فزت باللقب ومن يومها، في كل عام أحصل على هذا اللقب.
لا أستطيع أن أصف لك مدى السعادة والفرح الكبيرين اللذين شعرت يهما ذلك اليوم.
أما الآن وبعد موت الزوجين ورحيلهما إلى العالم الآخر، انظري إلى وضعي الذي يثير البؤس والاشمئزاز. نوافذي متكسرة، قذره لا تصلح حتى لتكون بيتًا للعناكب أو حتى الحشرات.
أبوابي مهترئه، باليه، ترقص لوحدها إن هبّت عليها ريح خفيفة، ذبلت زهور الحديقة، لعدم وجود من يهتم بها و.. و .. وو... .
كم أنا حزين ، كم أتمنى أن تعود تلك الأيام التي لطالما افتقدتها وافتقدها، أما الآن فلا استطيع أن أقول أو افعل أي شيء كان. فحتى كلمة " يا لــيت" ما عادت تجدي نفعًا ولن تعيد إلي تلك الذكريات المفقودة ، المتلاشية، المتبعثرة بداخل كياني بداخل قلبي الحزين الذي غدا اسيرًا لتلك الذكريات.
قلت له بنبرةٍ يعتليها غضبٌ وربما بعض الحزن: سحقًا لتلك الذكريات ألجميله التي تسلب النفس عند تذكرها وتتركها في دوامة صمتها وأحزانها، فتصبح تلك الذكريات كالحلم !! .
0 التعليقات:
إرسال تعليق